مختصرُ الكلام في كنوز السّنُّة المخبَّأة في بلاد الشام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فإني أريد أن أدلَّ أهلنا المسلمين وخصوصاً أهل الشام والعرب إلى كنوزٍ أحاطت
أنوارها بهم من كل جانبٍ وكثير منهم لا يشاهدونها إلا من أكرمه الله بذلك .
وإني من خلال رحلتي للشام وبحثي عن أكثر العلماء تمسُّكاً بالسنة وأكثرهم علماً وورعاً
واتصالاً بالأسانيد العالية إلى خير البرية صلى الله عليه وسلم .
شهدتُ المئات من علماء الشام وهم من خيرة العرب ورعاً وخشوعاً وتمسكاً
بالسُّنة واتقاناً لعلوم اللغة العربية والقرآن ومن أكثر العلماء حكمةً وسماحة ووسطية
واعتدالاً وفيهم العشرات من حفاظ كتب السُّنة السِّتة في الحديث وخصوصاً تلاميذ
الإمام المحدِّث الشيخ نور الدين العتر وعشرات الألوف مِن حفاظ كتاب الله مع الإجازة
الصحيحة حتى أنه في عربين إحدى قرى دمشق فيها آلاف الحفاظ والحافظات للقرآن .
ووجدتُ المدارس الكثيرة والقديمة كدار الحديث ومعهد الفتح وغيرها في كل المدن
وكانوا جميعاً على مشرب ومَسلكٍ واحد متقارب يعلوهم الوَقارُ والسَّمتُ الحسن والأخلاق
النبوية ويلبسون العمامة و الزيَّ الجميل وهو زيُّ علماء الحرمين السابقين ولا يوجد
بينهم جدالٌ ولا خلافٌ بعقيدةٍ ولا بفقهٍ ولا بحديثٍ ولا بشيءٍ يذكرُ ،
وإن تعددت المدارسُ طبعاً والمشاربُ السُّنية بينَ الشافعية والأحناف ومدارسهم الأشعرية
والقادرية والشاذلية والماتريدية وغيرها فقد كانوا مَدرسة واحدة يتواردُ عليها آلاف
المحدثين والمفسرين واللغوين والقرَّاء وفيهم أعلى الأسانيد في الحديث وفي أسانيدِ القرآن
وإن أعلى سند في الدنيا في القرآن العظيم هو سَند أستاذنا الثبت الشيخ بكري الطرابيشي
الدمشقي وبينه وبين النبي 26 رجلاً فقط في القرآن والقراءات.
و إن في مدينة دمشق من بحور العلم والعلماء من ينتفع القريب والبعيد بعلمهم كالإمام
المجدد الشيخ عبدُ الهَادِي الخَرسَة الذي هو من أجل علماء الشام إن لم يكن أكبرهم فيما
أعتقد وإن من سيرته الحَسنة التي أدعو المسلمين للتأسي بها :
أنه أمضى أكثر من ثلاثين عاماً في طلبه للعلم على ركبتيه بأدبٍ عند المئاتِ من المحدّثين
والفقهاء وغيرهم يتعلمُ الحديثَ وآدابه معاً والقرآن وتفسيرَه والفقهَ وقبلهُ أصول الفقهِ
بأدبٍ وتواضع يأخذ ما صَفا وأجمعت الأمة عليه ويترُك ما كَدَر وتفرَّدَ به بعض العلماء
وقد أجيز ربّما بآلافِ الإجازات السَنية من خُلاصة علماء السُّنة في العالم وَفي الشام
والأزهرِ ومن البقية البَاقية من شيوخِ الحرمين السَّابقين كمولانا الإمام المحدث الشيخ
علوي المالكي مفتي مكة ابن الشيخ عباس المالكي إمام الحرم المدني والذي تجمعت عنده
أسانيد جميع علماء الحرمين السابقين رضوان الله عليهم ومن سار على نهجهم أجمعين .
وهناك في الشام شيخ الإسلام وشيخُ شيوخ القراء المحدِّث الشيخ عبد الرزاق الحلبيّ
الحنفيّ النقشبنديّ شيخ أهلِ الشام عامَّةً العَلامة الورع التقي النقي وهُو شيخ وإمام المسجد
الأمويِّ لسِتين عاماً درَّس فيه كتابي البخاري ومسلم وكتاب الترمذي وابن ماجة وأبي
داوود والنسائي وتفسير القرطبي وحاشية ابن عابدين في الفقه الحنفيِّ لمرات عديدة
وغيرها المئات من الكتب والعلوم .
وإن أهلَ الشام وجميعَ أهل السُّنة بإجماعهم لا يقبلون العلم إلا من أهله الذين تلقوه بالسند
المتصل شيخاً عن شيخ إلى النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، مثل علماء الأزهر
واندونيسيا وباكستان وجَميع مدارس السُّنة الأخرى فِي حين نَجد أكثرَ الجماعَات السَّلفية في
السعودية وأنصار السنة في مصر اشتهروا بقبولهم العلم في علم الحديث والقرآن وغيره
عمَّن لا شيوخَ لهم كالألبانِي مثلاً وغيره باعترافِهم واعترافِهِ لأنه دعمَ نهجَهُم ، وربما صُرف
جزء هائل من أموال المسلمين للدعايةِ لهذا الشيخ المحدِّث بدون شيخٍ يحدثُ عنه وغيره
وأجمعوا عليه فيما بينهم وهذا لا يصدق ويحدث لأول مرة في التاريخ الإسلامي ونحن ندعو
لنا ولهم ولكل مسلم أن يقول الحق المبين لأن سنة الحبيب فوق شيوخنا وفوق كل شيء ولا مسَاومة عليها أبداً مهما يقدم من مال وشهرة .
وبعضهم لم يبين للمسلمين ذلك وأنا أقول لهم الحق الذي يعلموه: إذا كنتم تحبون الحديث
وتتمنون خدمتهُ فكيف يكون الإمام محدثاً بدون شيخ يروي عنه وبدون سند معتبر
وأنتم تنسبون أنفسكم لأهل السنة مع أن :
كل محدثي أهل السنة مسَلسَلين إلى النبي عن طريق مئات وحتى آلاف الأسانيد والشيوخ
حتى النبي صلى الله عليه وسلم على مدار التاريخ لم يشذ أحد عن ذلك وهذا هو علم
الحديث وطبقاته ورجاله عند أهل السُّنة حقيقة وليس لغيرهم مكان ما لم يسلك ما أجمعوا
عليه من زمن السلف إلى زمنهم وهم تلاميذ الصحابة وتابعيهم وحملة القرآن والحديث
وفقههُ على الظاهر وعلى الحقيقة وعلى المجَاز وعلى الحق وعلى اليقين بالسند المتصل .
فمادام عند أهلِ السُّنة يُعرف الرجلُ بشيوخهِ فحريٌّ بأهلنا المُسلمينَ في أرض العَرب
المباركَة تبيينَ هذه الحقائق للناس والدَّعوة للجماعة كما كان جلّ علماء الحرمين السابقين
قبل خمسينَ سنة وعَلى نفسِ مشربِ أهلِ الشام مشرباً واحداً طيباً مباركاً ، هذا وجميعنا
نعلم بأن من لا شيخ له ومَن كثر غلطُه في الحديث نَردُّ حديثهُ ولو دعم بكلامه وغلطه
منهجنا ، وأن من يأخذ العلم عن صُحفٍ وعن ورقٍ فعلمهُ عند أهل العلم كالعَدمِ وإن كانت
تدعمُهُ الأموالُ الكثيرة وبعض أربابِ النفوذ الذين يُريدون خدمة الدين فلا عبرَة إلا بالسَّند المتصل والأدبِ والاحترام المتبادلِ .
هذا وإني لاحظتُ أن علماء الشام يهتمون بتلقي العلم والتزكية معاً على أيدي الشيوخ وفي
المساجدِ وليس بينهم خلافٌ يذكر ولا جدالٌ ينكر بسببِ توارُدِ آلافِ العلماء الرَّبانيين
الأتقياء فلم يعد مكان للجاهلين ولا لفتاوى المهرِّجين فيما بينهم .
ولقد كانوا أنموذجاً يحتذى به لوحدةِ المشربِ وصفاءِ القلوب بالتوحيد وتمسُّك الناس
بالعلماء العاملين المحدِّثين القراء والصُّوفيين المحققين والفقهاء الربانيين وابتعادهم عن الأدعياء والجاهلين .
في حين كثرت الكتب والسّباب والردود الكثيرة والمشهورة لكثير من أدعياء علم الحديث
والسَّلف على بعضهم البعض وهذا هو التفرق الذي لا نرضاه ولا نحبه لأي مسلم .
وأنا برأيي أن كل الخلاف الذي يحدثُ لنا سَببُه الأول انقطاع السَّند الصحيح المتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو اتصالنا وموالاتنا لشيوخ هكذا حالهم والعياذ بالله .
فأهل الشام وكبار شيوخِهم ألزموا أنفَسهم بجميع آدابِ الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء
والعلماء ، وأخذوا علمهم بالسند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكابر الرجال
المتخلقين بأخلاق الأنبياء والصديقين والعلماء العاملين بعلمهم والأولياء السَّالمين من
الدَّعوى مهما كلفهم ذلك من إمضاءِ السنين الطويلة بطلب العلم عِند العُلماء .
فباقتباسهم لأنوار الفرقان لجماعة الصحابة ووراثهم وفهمهم للقرآن الكريم ولسنة الحبيب
المصطفى صلى الله عليه وسلم لم تتضارب عندهم النصوص وكانت بلا شك ولا ريب
فيها هداية ونورٌ لهم ولمن سار على طرقهم وأسانيدهم بعلم وورع وأدب إلى يوم الدين .
والحمدُ لله رب العالمين الذي ظهرت أنوار أحديَّته فوقَ كل شيء وطمَست حقائق عزه
وظهوره ووجوده كلَّ ظلمةٍ وباطل، وصلى الله على سيدنا محمد شمسِ الوصَال
وسِراج الجمالِ وعلى آله وصحبه وسَلم .